متجر فاصلة! ادخل الان وتصفح العديد من المتاجر والمكتبات من منصة واحدة

القراءة: تَيْهٌ أم هُدى

لعل معظمنا مر ويمر بمراحل من الشتات المعرفي، لا تعدو أن تكون قراءاته فيها سوى قفزات من كتاب لغيره ومن مجال لسواه، يحركه الفضول ثم يكبحه الملل، أو لعلّه يبغي قراءة كل المؤلفات التي في تخصصه وكل العناوين القيمة الموصى بها، ثم ينجذب إلى أي موضوع يصنع “التريند” وزد على هذا الشتات مأساة إهدار الوقت، وإذ بالعمر ينقضي وهو لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

أجد أن القراءة واحدة من أشد الممارسات البشرية تعقيدا، فعلٌ ذاتي تتجاذبه متغيرات خارجية عديدة، والطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع كتابه تقربا ونفورا، كيف يختاره، التأثير المتراكم للمقروءات عليه والعلاقات البشرية التي أُقيمت حول الكتب كلها بيان على ذلك، إذن لا دهشة لو وجدنا مسارات قراءاتنا تتبع رياح هذا العصر الأهوج المعينة على الخمول الفكري، عبر منفذين: استعجال قطف الثمرة والنزوح نحو السهل المريح، والوفرة التي تفتح اختيارات هائلة مغرية على القفز من كتاب لغيره، فترى همة الخلق قصرت عن إنهاء ما بدؤوه وتراخت عن إعمال العقل فيما قرؤوه، وكل خطوهم دائر في إسعاف المتعة وتسويف المنفعة، ودواء ذلك الصبر والفرز: بأن يختار القارئ لنفسه مجالا يتعمق فيه، ثم يحدد له منهاجا يقيه الشتات، و للأستاذ أحمد سالم كتاب نافع آخذ بأيدي الحائرين هو: السبل المرضية، فيه خرائط منهجية لعلوم شتى، وكثير من الراسخين كان يعبر طريقا أخرى بأن يجعل في كل فن من الفنون كتابا هو العماد الذي يتكئ عليه، يختمه دوريا ويعيده، وبقية الكتب تكون للمراجعة والنظر وإيضاح ما استشكل في المؤلف الأساسي.

ومما يقود إلى التيه أيضا تطلب الكمال، بأن يروم طالب العلم فهم كل جزيئة من كل صفحة،وإلا أُحبط وضجر وأغلق الدفتين ماضيا إلى آخر، وليس المرام من القراءة الفهم بالحذافير بل التركيز على القضية المركزية في الكتاب والأدلة المنسوجة بها ولا بأس بعدم الإحاطة بما تبقى، وفي هذا تييسر دافع للمواصلة، فلا ينتظر من المعنى أن يتوضح من أول مرة لكنه نتاج الملازمة والمزاولة.

لكل عثرة يلاقيها السائر ظلٌ في النفس، لابد أن يُضاء ويستكشف كي تستقيم الخطى، يتحرى القارئ مواطن الضجر ومسببات الانقطاع في ذاته، ثم يجدد نيته ويحدد منهجيته عسى أن يكون له بتراكم المعرفة هدى، لا أن تكون جولاته بين الصفحات تيهًا وسدى.