متجر فاصلة! ادخل الان وتصفح العديد من المتاجر والمكتبات من منصة واحدة

النُّقطتان في النّص العربي

لقد حَباني الله بصديق بهيِّ الطَّلعة رغم عُبوسه، بَليغِ القَول، مُسَدد الفعل، إلا أن الله عزّ و جلّ ابتلاه ببليّةٍ، و ابتُليت أنا به، ألا و هي مقتُه للنُّقطتين اذا التقتا في نص، و لست أعني النقطتين اللّتان توضعان فوق بعضٍ ليُستهل بهما قول القائل، و انما النُّقطتان اللَّتان تتجاوران.. و كأن صاحبي- غفر الله له – يهتزُ وجدانه اذا ما رآهما، فتراه يغضُّ الطَّرف إذا ما حلَّ بين يديه نثرٌ أو شعر عن براعة الاستهلال، و سمُو الفكرة، و جزالة اللفظ، و قوة العبارة.. و تراه يتتبع أثر النُّقطتين في النّص يحذو في ذلك حَذوَ قَصَّاصي الأثر في بوادي العرب سالِفَ الدَّهر، فلا يهدأ لهُ بال إلا و قد فَصلَ أُخراهما عن الأولى، فتحصل له بذلك نشوة ما بعدها انتشاء،و سعادة لا يبليها شقاء..

و لأن باب ما تفيده النقطتان بابٌ غير مطروق في الأدب، آثرتُ أن أُجمل فيه القول، لكيلا يخلُ العتاب من فائدة لأولي الألباب،  و الله الموفق الى الهدى و الصواب..

أقول و بالله التوفيق : إن كان عارفو الصوفية الأجلاّء قد جعلوا معنى الوجود متجسدا في النقطة التي تحت باء البسملة من سورة  الفاتحة؛ فتكون بوحدانيتها منطلقا للوجود و تعبيرا عن المراد،.. فإنني أجعل النقطتين في النص الأدبي أبلغ تعبير عن النفس الإنسانية القائمة على الثنائية، و التي تجمع بين المتناقضات، فهي التي – على قول الشّيخ الرئيس – هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ… فالأصل فيها أنها جمعت بين رفعة المركز و هبوط المستقر، و هي في تجاذب بين هذا و ذاك، و هذه هي الجدلية التي يُفسَّرُ بها التاريخ، و تُفهم على ضوئها السنن..

و إذا كانت النقطة في المتعارف عليه دالةً على تمام القول، و استيفاء المعنى، و إشعار بالعودة الى السطر.. فإن النقطتين تفيدان عكس ذلك ، و تعكسان شجون الكاتب، و إضماره لعظيم يختلج في الصدر و يختمر في الذهن، يدركه أُولو النظر..

فكأنه بنقطتيه يجعل للقارئ مجالا للاستطراد، و للتأويل، فهو يَحرم النقطة الأولى من كونها خاتمةً للكلام، و يجرد الثانية من مغزاها كونها أتت و ليس قبلها كلام.. فلا تُفهم إحداهما الا في ضوء الأخرى، و لا يستقيم لها معنى الا في كنفها.. و ما بين النقطتين فضاءٌ سحيق، و أمد طويل يحمل في طيَّاته جوهرا، و سيمةُ الدُّر أنه ساكنُ الصّدف..

إن ما بين النقطتين كالذي بين  السطور لا ينجلي الا لأهله، ستدرك ذلك حين تقرأ نصوص العقاد و طه حسين  و محمود شاكر و زكي نجيب محمود ،  و حين تتأمل قصائد نزار و محمود درويش و بالأخص قصيدة كُفي الملام لفهد العسكر..

إيّاك أن تظن أنها كُتبت عبثا، انما هي قصائد لم يكتب لها أن تُتلى، و معاني لم تسعها الكلمات.. يتفاوتُ النّاسُ في إدراك كُنهها على قدر القرائح و العلوم..

و من ذلك ما أورد صاحبه المهالك، كأبي العلاء المعري حين قال مدافعا عن أبي الطيب  : ” لو لم يكن للمتنبي إلا   ” لك يا منازل في القلوب منازل.. ” لكان أشعرَ الناس..” فسجنه  الشريف الرّضيّ، لكونه يدرك أن مراده حين استشهد بتلك القصيدة – التي ليست أفضل مُعجِز أحمد – هو آخر بيت فيها :

و إذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كاملُ..

تُرى ! هل كان ليحدث ذلك لو كتبت الحكاية بدون نقطتين..؟!

.

ألا يا معشر الكتاب هبوا.. و اكتبوا..

و لتجعلوا في كل سطر نقطتين..!

.

أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم