لقد حَباني الله بصديق بهيِّ الطَّلعة رغم عُبوسه، بَليغِ القَول، مُسَدد الفعل، إلا أن الله عزّ و جلّ ابتلاه ببليّةٍ، و ابتُليت أنا به، ألا و هي مقتُه للنُّقطتين اذا التقتا في نص، و لست أعني النقطتين اللّتان توضعان فوق بعضٍ ليُستهل بهما قول القائل، و انما النُّقطتان اللَّتان تتجاوران.. و كأن صاحبي- غفر الله له – يهتزُ وجدانه اذا ما رآهما، فتراه يغضُّ الطَّرف إذا ما حلَّ بين يديه نثرٌ أو شعر عن براعة الاستهلال، و سمُو الفكرة، و جزالة اللفظ، و قوة العبارة.. و تراه يتتبع أثر النُّقطتين في النّص يحذو في ذلك حَذوَ قَصَّاصي الأثر في بوادي العرب سالِفَ الدَّهر، فلا يهدأ لهُ بال إلا و قد فَصلَ أُخراهما عن الأولى، فتحصل له بذلك نشوة ما بعدها انتشاء،و سعادة لا يبليها شقاء..
و لأن باب ما تفيده النقطتان بابٌ غير مطروق في الأدب، آثرتُ أن أُجمل فيه القول، لكيلا يخلُ العتاب من فائدة لأولي الألباب، و الله الموفق الى الهدى و الصواب..
أقول و بالله التوفيق : إن كان عارفو الصوفية الأجلاّء قد جعلوا معنى الوجود متجسدا في النقطة التي تحت باء البسملة من سورة الفاتحة؛ فتكون بوحدانيتها منطلقا للوجود و تعبيرا عن المراد،.. فإنني أجعل النقطتين في النص الأدبي أبلغ تعبير عن النفس الإنسانية القائمة على الثنائية، و التي تجمع بين المتناقضات، فهي التي – على قول الشّيخ الرئيس – هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ… فالأصل فيها أنها جمعت بين رفعة المركز و هبوط المستقر، و هي في تجاذب بين هذا و ذاك، و هذه هي الجدلية التي يُفسَّرُ بها التاريخ، و تُفهم على ضوئها السنن..
و إذا كانت النقطة في المتعارف عليه دالةً على تمام القول، و استيفاء المعنى، و إشعار بالعودة الى السطر.. فإن النقطتين تفيدان عكس ذلك ، و تعكسان شجون الكاتب، و إضماره لعظيم يختلج في الصدر و يختمر في الذهن، يدركه أُولو النظر..
فكأنه بنقطتيه يجعل للقارئ مجالا للاستطراد، و للتأويل، فهو يَحرم النقطة الأولى من كونها خاتمةً للكلام، و يجرد الثانية من مغزاها كونها أتت و ليس قبلها كلام.. فلا تُفهم إحداهما الا في ضوء الأخرى، و لا يستقيم لها معنى الا في كنفها.. و ما بين النقطتين فضاءٌ سحيق، و أمد طويل يحمل في طيَّاته جوهرا، و سيمةُ الدُّر أنه ساكنُ الصّدف..
إن ما بين النقطتين كالذي بين السطور لا ينجلي الا لأهله، ستدرك ذلك حين تقرأ نصوص العقاد و طه حسين و محمود شاكر و زكي نجيب محمود ، و حين تتأمل قصائد نزار و محمود درويش و بالأخص قصيدة كُفي الملام لفهد العسكر..
إيّاك أن تظن أنها كُتبت عبثا، انما هي قصائد لم يكتب لها أن تُتلى، و معاني لم تسعها الكلمات.. يتفاوتُ النّاسُ في إدراك كُنهها على قدر القرائح و العلوم..
و من ذلك ما أورد صاحبه المهالك، كأبي العلاء المعري حين قال مدافعا عن أبي الطيب : ” لو لم يكن للمتنبي إلا ” لك يا منازل في القلوب منازل.. ” لكان أشعرَ الناس..” فسجنه الشريف الرّضيّ، لكونه يدرك أن مراده حين استشهد بتلك القصيدة – التي ليست أفضل مُعجِز أحمد – هو آخر بيت فيها :
و إذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كاملُ..
تُرى ! هل كان ليحدث ذلك لو كتبت الحكاية بدون نقطتين..؟!
.
ألا يا معشر الكتاب هبوا.. و اكتبوا..
و لتجعلوا في كل سطر نقطتين..!
.
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم
اترك تعلقيا