يبحثُ الإنسان عن المعنى، يُغويه التحرّر من براثن السّياقات الرجعيّة التي ربّما يكتنفها الغموض وتتّسم بالترهُّل أو تعجز عن تفسير ما حوله؛ لاكتشاف سياقاتٍ جديدة تخدم آفاقه وتضعها في مساحاتٍ أوسع، أو ربّما يستهويه التّغريد خارج السّرب، يعكفُ على مجالس التأمّل والتبصّر زاهدًا في المطامِع والمغانِم، فارًّا من ضيق الواقع إلى رحابة الخيال، ومن رتابة الحياة إلى تغيّرات الأفكار والوجدان؛ فيجدُ في الكُتب ضالّته وأُنسه، أين تتنوّع المعاني وتتعدّد الأفكار والتوجّهات وتتّسع المساحات، في حين يتّحد الجذر والأصل في لغة الحرفِ بين ألفٍ وياء.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الثورة العلميّة اليوم وفّرت وسائل لا حصر لها لاقتناء الكُتب؛ من مواقع ومنصّاتٍ مهمّة تُتيح للقرّاء متابعة كلّ جديدٍ من الكُتب على اختلاف مجالاتها ولغاتها، بالإضافة إلى وفرة المكتبات الرقميّة وسُبل البيع والتوزيع الميسّرة والمتاحة للجميع، للحصول على النّسخ ورقيّةً كانت أو إلكترونيّة أو حتى صوتيّة، بطريقةٍ ما كان يمكن الحُلم بها قبل سنوات خَلت، وتلك واحدة من الحسنات الكثيرة التي لا يُمكن تجاهلها أو إنكارها. غير أنّ هذا الفيض والرّغد المتاح لا يخلو من منغّصاتٍ في الوقت ذاته، ولعلّ أهمّ تلك المنغّصات أنّه خلق نوعًا من التهافُت على تكديس الكُتب وصفّها على الرّفوف والتملّق بها بدل قراءتها والانتفاع منها، ممّا كوّن جيلاً فارغًا معرفيًّا، لا هو يستبين وضاعة قلّة ما عنده من علمٍ، ولا هو يجد في كثرة ما يملك من كُتب همّة تدفعه لقراءتها. فتكديس الكتب ينشر وهْم المعرفة، والذي بدوره يُرسّخ دين النّقاش الهمجيّ والاعتداء اللفظيّ والانقياد بغير وعيٍ. في حين أنّ العِلم الحقيقيّ أثمن وأنفَس، يُضفي على صاحبه مسحةً من الأدب والتواضع والرّصانة، بالإضافة إلى الحِلم وانتقاء اللفظ المناسب الذين يخدم المعنى الحقّ، وليس مُجرّد ابتياع الكتب وصَفّها على رفوف المكتبات، ويبقى العالم بما حَوى أعقد من فهمه من مجرّد امتلاك مكتبة فخمة أو تجميع كُتبٍ أو قراءة عنوانٍ أو تقديمٍ أو فهرسة.
ثمّ إنّ المفهوم الرائج للقراءة كفعلٍ يعتريه لُبس كبير، فينبغي بدءًا أن ينظر المرء إلى فِعل القراءة كعمليّة منهجيّة لا كهواية أو تِعداد ما يتمُّ التهامه من كُتب؛ فقراءة أيّ كتابٍ بداية توجب أن يُعدّ كاتبه مرجعًا مُعتمدًا في طرح المادة التي حرّرها، وأن يتمحور الكتاب على مادّة ذات قيمة معرفيّة مهمّة، وذات إيقاع رصينٍ مُنْسابٍ في المسار المطلوب لها. ولعلّي في هذا السّياق أشير إلى مثال ممتاز عن الكتب العالمية ذات البصمة التحريريّة المميّزة والتي ساهم في إخراجها كتّابٌ أعلامٌ كلّ بارعٌ في ميدانه: سلسلة “كتاب كامبردج المرجعي” في شتى الفروع المعرفيّة، وأرى السّلسلة مثالاً راقيًا للأنموذج الذي يجب أن تكون عليها الكتب المحرّرة الرّصينة.
كما أنّ القراءة لا تقتصر على المعنى الضيّق المتعارف عليه -قراءة كُتبٍ فحسب-، فأمره عزّ وجلّ {اقْرَأْ} نزل على رجُل أميٍّ، لكنّ قراءته -عليه الصلاة والسلام-كانت قراءةً تأمليّة، في الخلق، في النّفس والكون، قراءة معرفة بنفوس وسيكولوجيّات الناس، قراءة تجارب وخبرات، انتصار وانكسار، قبول ورفضٍ، حرب وسِلم، قراءة في وجوه الفقراء وفي تسبيح الطّير والشجر… قراءة تغيير أوضاع مجتمع مختلّة موازينه، قراءة صُنع جيلٍ كاملٍ يسعى ليؤدّي رسالته، ليكون خليفة الله على الأرض، قراءة لاستكمال أطوارنا، لحلقتِنا المفقودة بين خلق الله. فإذا لم تجد هذه المعاني طريقها لسلوكنا مع فِعل القراءة، وبقيت الأخلاق والتأمّلات حبيسة الكتب تُروى ولا تَروِي، فستتحوّل رسالتنا على الأرض شيئًا فشيئًا إلى آثار متحفيّة بدل أن تكون نورًا منبعثًا نهتدي به ونستقيم عليه.
إنّ الكُتب ثروتنا البشريّة التي لن تفنى إلا بفنائنا، ومشكاة يخرج من بين طياتها حروفٌ تسري بين النّاس كالأنوار يُستضاء بها، تستحقّ شرف القراءة الجادّة من القارئ المُجيد، أمّا القراءة فمسؤولية تترتّب على عاتقها أقسى التبعات؛ “فكلّ زيادة في العِلم هي زيادة في التّكليف”. أما من ينتظر ادّعاء العلم من خلال تجميع الكتب وتكديسها، وافتقر للصّبر على القراءة وللرغبة الصّادقة في الفهم وأخذ العلّم الحقيقيّ وظنّ أنّ القشور المتناثر من خواطر المتأخرين ونفحات المعاصرين تُغني عن جوهر ما تحتويه الكتب في مجالاتها المختلفة والمتشابكة، فمثله كمثلِ الذي ابتغى الوصول لغايته عابرًا الصّحراء بدون وسيلة تعينه ولا دليل يرشده، مُفتقرًا إلى المنهج وخرائط الطريق، ويخدع نفسه بقوله أنفَقت فيما ينفع وأحسَنت الانتقاء. لذا عليه ألا يتوقّع نيل شيءٍ من هذا الطريق المُرتجى!
اترك تعلقيا